فصل: سَبَبُ حُبِّ الْمَدْحِ وَبُغْضِ الذَّمِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.بَيَانُ حَدِّ السَّخَاءِ وَالْبُخْلِ وَحَقِيقَتُهُمَا:

اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ خُلِقَ لِحِكْمَةٍ، وَهُوَ صَلَاحُهُ لِحَاجَاتِ الْخَلْقِ، فَيُمْكِنُ إِمْسَاكُهُ عَنْ صَرْفِهِ إِلَى مَا خُلِقَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ بَذْلُهُ بِالصَّرْفِ إِلَى مَا لَا يَحْسُنُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ يُحْفَظَ حَيْثُ يَجِبُ الْحِفْظُ، وَيُبْذَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ، فَالْإِمْسَاكُ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ بُخْلٌ، وَالْبَذْلُ حَيْثُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ تَبْذِيرٌ، وَبَيْنَهَا وَسَطٌ هُوَ الْمَحْمُودُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّخَاءُ وَالْجُودُ عِبَارَةً عَنْهُ، إِذْ لَمْ يُؤْمَرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالسَّخَاءِ، وَقَدْ قِيلَ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الْإِسْرَاءِ: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الْفُرْقَانِ: 67].
فَالْجُودُ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، وَبَيْنَ الْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ بَذْلُهُ وَإِمْسَاكُهُ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ طَيِّبًا بِهِ غَيْرَ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَاجِبَ بَذْلُهُ قِسْمَانِ: وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ، وَوَاجِبٌ بِالْمُرُوءَةِ وَالْعَادَةِ.
وَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ، وَلَا وَاجِبَ الْمُرُوءَةِ، فَإِنْ مَنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهُوَ بَخِيلٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ أَبْخَلُ، كَالَّذِي يَمْنَعُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَيَمْنَعُ عِيَالَهُ وَأَهْلَهُ النَّفَقَةَ أَوْ يُؤَدِّيهَا وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ بَخِيلٌ بِالطَّبْعِ، أَوِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَطِيبُ قَلْبُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَطْيَبِ مَالِهِ أَوْ مِنْ وَسَطِهِ فَهَذَا كُلُّهُ بُخْلٌ.
وَمِنْ وَاجِبِ الْمُرُوءَةِ تَرْكُ الْمُضَايَقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ، وَاسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، فَمَنْ كَثُرَ مَالُهُ اسْتُقْبِحَ مِنْهُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْفَقِيرِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ، وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الرَّجُلِ الْمُضَايَقَةُ مَعَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الْجَارِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْبَعِيدِ، وَيُسْتَقْبَحُ فِي الضِّيَافَةِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ فِي الْمُعَامَلَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَخِيلُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ إِمَّا بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَإِمَّا بِحُكْمِ الْمُرُوءَةِ، وَمَنْ أَدَّى وَاجِبَ الشَّرْعِ وَوَاجِبَ الْمُرُوءَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْبُخْلِ، نَعَمْ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ مَا لَمْ يَبْذُلْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ لِطَلَبِ الْفَضِيلَةِ وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ، فَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ وَرَاءَ مَا تُوجِبُهُ الْعَادَةُ وَالْمُرُوءَةُ هُوَ الْجُودُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلَا يَكُونَ عَنْ طَمَعٍ وَرَجَاءِ خِدْمَةٍ أَوْ مُكَافَأَةٍ أَوْ شُكْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ، فَإِنَّ مَنْ طَمِعَ فِي الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَهُوَ بَيَّاعٌ وَلَيْسَ بِجَوَّادٍ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي الْمَدْحَ بِمَالِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنَ الْهِجَاءِ أَوْ مَلَامَةِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْجُودِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْبَوَاعِثِ وَهِيَ أَعْوَاضٌ مُعَجَّلَةٌ لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَاضٌ لَا جَوَّادٌ.

.بَيَانُ عِلَاجِ الْبُخْلِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْبُخْلَ سَبَبُهُ حُبُّ الْمَالِ، وَلِحُبِّ الْمَالِ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: حُبُّ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا وُصُولَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَالِ مَعَ طُولِ الْأَمَلِ.
الثَّانِي: أَنْ يُحِبَّ عَيْنَ الْمَالِ وَيَلْتَذَّ بِوُجُودِهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَنْ حَاجَاتِهِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ بِمُضَادَّةِ سَبَبِهَا، فَيُعَالَجُ حُبُّ الشَّهَوَاتِ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ وَبِالصَّبْرِ، وَيُعَالَجُ طُولُ الْأَمَلِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَالنَّظَرِ فِي مَوْتِ الْأَقْرَانِ وَطُولِ تَعَبِهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَضَيَاعِهِ بَعْدَهُمْ، وَيُعَالَجُ الْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى الْوَلَدِ بِأَنَّ خَالِقَهُ خَلَقَ مَعَهُ رِزْقَهُ، وَكَمْ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَرِثْ مِنْ أَبِيهِ مَالًا، وَحَالُهُ أَحْسَنُ مِمَّنْ وَرِثَ، وَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ لِوَلَدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ وَلَدَهُ بِخَيْرٍ وَيَنْقَلِبُ إِلَى شَرٍّ، وَيُعَالَجُ قَلْبُهُ أَيْضًا بِكَثْرَةِ التَّأَمُّلِ فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَمَدْحِ السَّخَاءِ وَمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْبُخْلِ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ.
وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ: كَثْرَةُ التَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبُخَلَاءِ وَنَفْرَةُ الطَّبْعِ عَنْهُمْ وَاسْتِقْبَاحُهُمْ لَهُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَخِيلٍ إِلَّا وَيَسْتَقْبِحُ الْبُخْلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَسْتَثْقِلُ الْبَخِيلُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَثْقَلٌ وَمُسْتَقْذَرٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِثْلُ سَائِرِ الْبُخَلَاءِ فِي قَلْبِهِ، وَيُعَالَجُ قَلْبُهُ أَيْضًا بِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مَقَاصِدِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لِمَاذَا خُلِقَ فَلَا يَحْفَظُ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ حَاجَتِهِ وَالْبَاقِي يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ بَذْلِهِ.
فَهَذِهِ الْأَدْوِيَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ، فَإِذَا عَرَفَ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ أَنَّ الْبَذْلَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْإِمْسَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَاجَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْبَذْلِ إِنْ كَانَ عَاقِلًا، فَإِذَا تَحَرَّكَتِ الشَّهْوَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ، وَلَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيُخَوِّفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْهُ.

.كِتَابُ ذَمِّ الْجَاهِ وَالرِّيَاءِ:

اعْلَمْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ أَنَّ أَصْلَ الْجَاهِ هُوَ انْتِشَارُ الصِّيتِ وَالِاشْتِهَارِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ، بَلِ الْمَحْمُودُ الْخُمُولُ إِلَّا مَنْ شَهَرَهُ اللَّهُ لِنَشْرِ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ طَلَبِ الشُّهْرَةِ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [الْقَصَصِ: 83] جَمَعَ بَيْنَ إِرَادَةِ الْفَسَادِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَبَيْنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِلْخَالِي عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هُودٍ: 15- 16].
وَهَذَا أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ بِعُمُومِهِ لِحُبِّ الْجَاهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لَذَّةً مِنْ لَذَّاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَكْثَرُ زِينَةً مِنْ زِينَتِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
وَرُوِيَ فِي فَضِيلَةِ الْخُمُولِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُبَّ أَشَعْثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ».
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، وَأَهْلُ النَّارِ: كُلُّ مُتَكَبِّرٍ مُسْتَكْبِرٍ جَوَّاظٍ».
وَالْأَخْبَارُ فِي مَذَمَّةِ الشُّهْرَةِ وَفَضِيلَةِ الْخُمُولِ كَثِيرَةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالشُّهْرَةِ وَانْتِشَارِ الصِّيتِ هُوَ الْجَاهُ وَالْمَنْزِلَةُ فِي الْقُلُوبِ. وَحُبُّ الْجَاهِ مَنْشَأُ كُلِّ فَسَادٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ طَلَبُ الشُّهْرَةِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا وُجُودُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ مِنَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ.

.بَيَانُ الْحَدِّ الَّذِي يُبَاحُ فِيهِ الْجَاهُ:

اعْلَمْ أَنَّ الْجَاهَ وَالْمَالَ هُمَا رُكْنَا الدُّنْيَا، وَمَعْنَى الْمَالِ مِلْكُ الْأَعْيَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَمَعْنَى الْجَاهِ مِلْكُ الْقُلُوبِ الْمَطْلُوبِ تَعْظِيمُهَا وَطَاعَتُهَا أَيِ: الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا لِيُسْتَعْمَلَ بِوَاسِطَتِهَا أَرْبَابُهَا فِي أَغْرَاضِهِ، فَحُكْمُ الْجَاهِ حُكْمُ مِلْكِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، وَالدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، فَكُلُّ مَا خُلِقَ فِي الدُّنْيَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُتَزَوَّدَ مِنْهُ لِلْآخِرَةِ، فَحُبُّ الْجَاهِ وَالْمَالِ لِأَجْلِ التَّوَسُّلِ بِهِمَا إِلَى مُهِمَّاتِ الْبَدَنِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَحُبُّهُمَا لِأَعْيَانِهِمَا فِيمَا يُجَاوِزُ ضَرُورَةَ الْبَدَنِ وَحَاجَتَهُ مَذْمُومٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يُوصَفُ صَاحِبُهُ بِالْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ مَا لَمْ يَحْمِلْهُ الْحُبُّ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَعْصِيَةٍ وَمَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى اكْتِسَابِهِ بِكَذِبٍ وَخِدَاعٍ وَارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، وَمَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى اكْتِسَابِهِ بِعِبَادَةٍ، فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ بِالْعِبَادَةِ جِنَايَةٌ عَلَى الدِّينِ، وَهُوَ حَرَامٌ.
وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلَةِ وَالْجَاهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ أَنْ يُقَالَ: يُطْلَبُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ مُبَاحَانِ وَوَجْهٌ مَحْظُورٌ:
أَمَّا الْوَجْهُ الْمَحْظُورُ: فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ قِيَامَ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ صِفَةً هُوَ مُنْفَكٌّ عَنْهَا مِثْلَ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَالنَّسَبِ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ أَوْ عَالِمٌ أَوْ وَرِعٌ، وَهُوَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَتَلْبِيسٌ إِمَّا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْمُعَامَلَةِ.
وَأَمَّا أَحَدُ الْمُبَاحَيْنِ: فَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الْمَنْزِلَةَ بِصِفَةٍ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا كَقَوْلِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَا أَخْبَرَ عَنْهُ الرَّبُّ تَعَالَى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يُوسُفَ: 55] فَإِنَّهُ طَلَبَ الْمَنْزِلَةَ فِي قَلْبِهِ بِكَوْنِهِ حَفِيظًا عَلِيمًا، وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَطْلُبَ إِخْفَاءَ عَيْبٍ مِنْ عُيُوبِهِ وَمَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِيهِ حَتَّى لَا يُعْلَمَ فَلَا تَزُولُ مَنْزِلَتُهُ بِهِ، فَهَذَا أَيْضًا مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ حِفْظَ السَّتْرِ عَلَى الْقَبَائِحِ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ هَتْكُ السَّتْرِ، كَالَّذِي يُخْفِي عَمَّنْ يُرِيدُ اسْتِئْجَارَهُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ أَنَّهُ وَرِعٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنِّي وَرِعٌ تَلْبِيسٌ وَعَدَمُ إِقْرَارِهِ بِالشُّرْبِ لَا يُوجِبُ اعْتِقَادَ الْوَرَعِ، بَلْ يَمْنَعُ الْعِلْمَ بِالشُّرْبِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحْظُورَاتِ تَحْسِينُ الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَحْسُنَ فِيهِ اعْتِقَادُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ، وَهُوَ مُلْبِسٌ إِذْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الْخَاشِعِينَ لِلَّهِ، وَهُوَ مُرَاءٍ بِمَا يَفْعَلُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُخْلِصًا؟ فَطَلَبُ الْجَاهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَرَامٌ وَكَذَا بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى اكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ غَيْرِهِ بِتَلْبِيسٍ فِي عِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ قَلْبَهُ بِتَزْوِيرٍ وَخِدَاعٍ، فَإِنَّ مِلْكَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ مِلْكِ الْأَمْوَالِ.

.سَبَبُ حُبِّ الْمَدْحِ وَبُغْضِ الذَّمِّ:

لَا يُعْرَفُ طَرِيقُ الْعِلَاجِ لِذَلِكَ مَا لَمْ يُعْرَفْ سَبَبُهُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ لَا يُمْكِنُ مُعَالَجَتُهُ، إِذِ الْعِلَاجُ عِبَارَةٌ عَنْ حَلِّ أَسْبَابِ الْمَرَضِ.
لِحُبِّ الْمَدْحِ وَالْتِذَاذِ الْقَلْبِ بِهِ أَسْبَابٌ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى شُعُورُ النَّفْسِ بِالْكَمَالِ، وَمَهْمَا شَعَرَتْ بِكَمَالِهَا ارْتَاحَتْ وَاهْتَزَّتْ وَتَلَذَّذَتْ، وَالْمَدْحُ يُشْعِرُ نَفْسَ الْمَمْدُوحِ بِكَمَالِهَا.
السَّبَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَدْحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَلْبَ الْمَادِحِ مَمْلُوكٌ لِلْمَمْدُوحِ وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ وَمُعْتَقِدٌ فِيهِ وَمُسَخَّرٌ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَمِلْكُ الْقُلُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالشُّعُورُ بِحُصُولِهِ لَذِيذٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ثَنَاءَ الْمُثْنِي وَمَدْحَ الْمَادِحِ سَبَبٌ لِاصْطِيَادِ قَلْبِ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِثَنَائِهِ فِي مَلَأٍ فَيَكُونُ الْمَدْحُ أَلَذَّ، وَالذَّمُّ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ. فَأَمَّا الْعِلَّةُ الْأُولَى-
وَهِيَ اسْتِشْعَارُ الْكَمَالِ- فَتَنْدَفِعُ بِأَنْ يَعْلَمَ الْمَمْدُوحُ أَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي قَوْلِهِ كَمَا إِذَا مُدِحَ بِأَنَّهُ نَسِيبٌ أَوْ سَخِيٌّ أَوْ عَالِمٌ بِعِلْمٍ أَوْ مُتَوَرِّعٌ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضِدَّ ذَلِكَ فَتَزُولُ اللَّذَّةُ الَّتِي سَبَبُهَا اسْتِشْعَارُ الْكَمَالِ، وَتَبْقَى لَذَّةُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى قَلْبِهِ وَعَلَى لِسَانِهِ، وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَادِحَ لَيْسَ يَعْتَقِدُ مَا يَقُولُهُ وَيَعْلَمُ خُلُوَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَطَلَتِ اللَّذَّةُ الثَّانِيَةُ، وَهُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَى قَلْبِهِ فَبَطَلَتِ اللَّذَّاتُ كُلُّهَا.

.بَيَانُ عِلَاجِ حُبِّ الْجَاهِ:

اعْلَمْ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الْجَاهِ صَارَ مَقْصُورَ الْهَمِّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ، مَشْغُوفًا بِالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ وَالْمُرَاءَاةِ لِأَجْلِهِمْ، وَلَا يَزَالُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مُلْتَفِتًا إِلَى مَا يُعَظِّمُ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ بَذْرُ النِّفَاقِ وَأَصْلُ الْفَسَادِ، وَيَجُرُّ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُرَاءَاةِ بِهَا، وَإِلَى اقْتِحَامِ الْمَحْظُورَاتِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى اقْتِنَاصِ الْقُلُوبِ.
فَإِذَنْ حُبُّ الْجَاهِ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ فَيَجِبُ عِلَاجُهُ وَإِزَالَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ، وَعِلَاجُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ: أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَحَبَّ الْجَاهَ، وَهُوَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى قُلُوبِ النَّاسِ إِنْ صَفَا وَسُلِّمَ فَآخِرُهُ الْمَوْتُ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ بِهِ الدِّينَ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ الَّتِي لَا انْقِطَاعَ لَهَا.
وَأَمَّا الْعَمَلُ فَبِأَنْ يَأْنَسَ بِالْخُمُولِ لِيَسْقُطَ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَيَسْتَعِينَ عَلَيْهِ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْجَاهِ وَمَدْحِ الْخُمُولِ، وَيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِ السَّلَفِ وَإِيثَارِهِمْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ عَلَى زُخْرُفِ الدُّنْيَا.

.بَيَانُ وَجْهِ الْعِلَاجِ لِحُبِّ الْمَدْحِ وَكَرَاهَةِ الذَّمِّ:

اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ إِنَّمَا هَلَكُوا بِخَوْفِ مَذَمَّةِ النَّاسِ وَحُبِّ مَدْحِهِمْ فَصَارَتْ حَرَكَاتُهُمْ كُلُّهَا مَوْقُوفَةً عَلَى مَا يُوَافِقُ رِضَا النَّاسِ رَجَاءً لِلْمَدْحِ وَخَوْفًا مِنَ الذَّمِّ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ فَيَجِبُ مُعَالَجَتُهُ. وَطَرِيقُهُ مُلَاحَظَةُ الْأَسْبَابِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يُحِبُّ الْمَدْحَ وَيَكْرَهُ الذَّمَّ: فَمِنَ الْأَسْبَابِ اسْتِشْعَارُ الْكَمَالِ بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَادِحِ.
فَطَرِيقُكَ فِيهِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى عَقْلِكَ وَتَقُولَ لِنَفْسِكَ: هَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي يَمْدَحُكَ بِهَا أَنْتَ مُتَّصِفٌ بِهَا أَمْ لَا، فَإِنْ كُنْتَ مُتَّصِفًا بِهَا فَإِنْ كَانَتْ كَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ فَهَذِهِ لَا تَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ، فَالْفَرَحُ بِهَا كَالْفَرَحِ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ الَّذِي يَصِيرُ عَلَى الْقُرْبِ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ الْعَقْلِ، وَإِنْ كَانَتْ كَالْعِلْمِ وَالْوَرَعِ فَهَذِهِ وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْمَدْحَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْفَرَحُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْخَاتِمَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ الَّتِي مُدِحْتَ بِهَا أَنْتَ خَالٍ عَنْهَا فَفَرَحُكَ بِالْمَدْحِ غَايَةُ الْجُنُونِ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْحِشْمَةُ الَّتِي اضْطَرَّتِ الْمَادِحَ إِلَى الْمَدْحِ، وَهُوَ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى قُدْرَةٍ عَارِضَةٍ لَا ثَبَاتَ لَهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ الْفَرَحَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَغُمَّكَ مَدْحُ الْمَادِحِ وَتَكْرَهَهُ وَتَغْضَبَ بِهِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ آفَاتِ الْمَدْحِ عَلَى الْمَمْدُوحِ عَظِيمَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آفَاتِ اللِّسَانِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً لِلْمَادِحِ، «وَيْحَكَ قَصَمْتَ ظَهْرَهُ».